د.نجيبة ابراهيم أحمد
كلية العلوم السياسية –جامعة صلاح الدين
تبدأ مقاربة نانسي فريزر جديدة والتي هي تعد من بين فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت النقدية، لمسألة العدالة Justiceبوصفها مفهوماً مركباً من مفاهيم أخرى هي “الاعتراف” و”إعادة التوزيع Redistribution”، محاولة بذلك أن تجمع بين أنموذجين من مطالب الحركات الاجتماعية المعاصرة، والمتمثلة بالأنموذج الثقافي المعبر عنه بالاعتراف، والاقتصادي المتمثل إعادة التوزيع، وذلك تحت مظلة المبدأ القائل بأن “التكافؤ في المشاركة أو المشاركة المتساوية”، والذي يستدعي بدوره المجال العام بوصفه المجال السياسي لإجراء هذا المبدأ.
لقد شهد المجتمع الأمريكي ظهور عدد من الحركات الاجتماعية إبان فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين، بشتى توجهاتها (النسوية،اليسارية،الثقافية،العرقية…)، وكان ذلك بمثابة أرضية خصبة لإعادة طرح سؤال العدالة في المجتمع المعاصر. لكن هذه المرة في سياق أكثر تعقيداً، وهو سياق انتشار العولمة الليبرالية، وهيمنة السياسات الرأسمالية المحتكرة للثروة وكذا هيمنة الأنموذج الثقافي الواحد (الرجل الأمريكي الأبيض ) على الفضاءات العامة. سياق لم تعد فيه الهيمنة الاقتصادية فحسب، بل تعدت ذلك كي تطال البعد الرمزي كذلك. وأضحت المطالب المرفوعة من طرف الحركات الاجتماعية مطالب ثقافية وهوياتية بعد أن كانت مطالب اقتصادية فقط، إذ حلت محله شعارات المطالبة “بالكرامة dignity” ومعارضة سياسة الاحتقار التي تنهجها الدول المحتكرة للرأسمال المادي والرمزي. وفي هذا الإطار ينبثق مفهوم “الاعتراف ” لدى نانسي فريزر، ليضاف إلى مفهوم إعادة التوزيع، بوصفهما مطلبين رئيسين شكلا أفق العدالة المنشودة من طرف الحركات الاجتماعية والمواطنين بشكل عام داخل الفضاءات العمومية. فبالقدر الذي تتفاقم فيه الهوة بين الفئات والطبقات الاجتماعية على المستوى الاقتصادي، وما ينجم عنه من احتدام الفقر، والبطالة، والتهميش الاجتماعي، وتقلص الخدمات من صحة وتعليم وسكن ونقل …تتهاوى في الوقت نفسه القيمة الرمزية للأفراد والجماعات المهمشة إثنياً وثقافياً ولغوياً، ويمارس الاحتقار ضدهم.
من هنا أصبحت مسألة العدالة تطرح ضرورة مساءلة بواعث الظلم الاجتماعي بشكل مزدوج، مساءلة الظلم الاجتماعي والثقافي، من جهة ومن جهة أخرى مسألة الظلم الاجتماعي والاقتصادي. وهما مطلبين مختلفين، فمن الناحية الثقافية نكون أمام مطلب الاعتراف، أما من الناحية الاقتصادية فنكون أمام مطلب إعادة التوزيع. وهو ما سيجعل الحركات الاجتماعية تناضل كل من جهتها من أجل تحقيق العدالة، إذ سيمضي اليسار إلى رفع مطلب العدالة الاجتماعية من زواية اقتصادية محضة، تتمثل في ضرورة إعادة توزيع الموارد والثروات بشكل عادل بين الطبقات، في حين ستمضي الحركات الثقافية والجنسانية والعرقية في المطالبة برد الاعتبار للأقليات والجماعات اللغوية المهمشة من زاوية ثقافية محضة، ما سيطرح نوعاً من التصادم بين التوجهين.
نكون هنا أمام مفارقة فرضها بالأساس الواقع المعاصر الذي أضحى معقداً وهو ما تطلق عليه فريزر بالوضع “مابعد الاشتراكي Post Socialist” بمعنى وضع ما بعد انهيار المعسكر الشرقي (1989) وتراجع الآيدولوجيا الاشتراكية بوصفها مشروعاً بديلاً للرأسمالية، مع غياب أي مشروع آخر بديل للنظام الاقتصادي النيوليبرالي القائم. بمعنى أن العدالة ستبقى هدفاً مشتركاً بين كل الحركات الاجتماعية، لكن لكل نهجه الخاص في هذا المجال لذا، فالتصادم والتعارض قائم بين المطالبين بهذا الهدف المشترك (العدالة)، فكيف السبيل لرفعه؟.
وفي سبيل رفع كلا المطلبين لا بدّ من التوفيق كما تقول نانسي فريزر بين اليساريين الجذري(الراديكالي) والثقافي، وتأسيس ديمقراطية جذرية تستوعب الطابع التعددي للثقافات والهويات داخل المجتمعات المعاصرة، دون التضحية بالالتزام التاريخي الذي رفعه اليسار، والمتمثل في سعيه إلى تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية. الرهان حسب فريزر والحالة هذه هي الوصول إلى أنموذج شامل للعدالة، يستحضر الجانب الثقافي في الصراع، أي الظلم الثقافي، والجانب الاقتصادي كذلك أي الظلم الاقتصادي.
إلا أن هذا التمييز بين اللاعدالة الثقافية واللاعدالة الاقتصادية تقول فريزر” يجب أن لا يحجب عنا أنه على مستوى الممارسة، نجد أن هذين الشكلين من اللاعدالة يتداخلان عادة بشكل وطيد جدلياً. فالتبعية الاقتصادية تمنع في الحقيقة كل مشاركة في عملية الإنتاج الثقافي، والتي تكون فيها المعايير بدورها مؤسسة من لدن الدولة والعالم الاقتصادي”. هذا الأنموذج الذي تسعى نانسي فريزر لتأسيسه نظرياً، لا يقبل اختزال أحد المطلبين في مطلب واحد، بل يعطي لكل واحد ميزته وخصوصيته دون إعطاء الطابع الجوهري لأحدهما على حساب الآخر. العدالة وفق فريزر ستستدعي “تصوراً يستوعب كل أشكال القهر والظلم الاجتماعي، والتجاوب مع الحاجات والمطالب دونما انحياز لأحد الأطراف على حساب آخر”.
وهو ما يعني إعادة التفكير في كلا المفهومين ومراجعتهما في ضوء المتغيرات الحاصلة بعالمنا المعاصر، حتى نتمكن من بلورة نظرية نقدية تستجيب لمتطلبات الواقع الاجتماعي.
من هنا يأتي تصور فريزر للاعتراف كوصفه من أجل فهم العالم المعاصر، خصوصاً بعد أن صارت جل النضالات التي تخوضها الحركات الاجتماعية عبر العالم متمحورة حول مطالب مادية وغير مادية، وذات ارتباط وثيق بالأبعاد الثقافية والرمزية والاقتصادية، وتسعى إلى القضاء ليس على الاستغلال الاقتصادي فحسب، بل الهيمنة الثقافية التي تفرضها اتجاهات التفكير السائدة كذلك. وهو ما ينجم عنه غياب الاعتراف بالآخر المختلف، أو بالذوات المغايرة للمعايير الرمزية والاقتصادية السائدة وبالجماعات الثقافية المهمشة.في ظل هذه الظروف تتموضع العدالة في موقع وسط بين التوجهين الاقتصادي والثقافي موضوع النزاع. إذ يرى التوجه الثقافي أن تلافي اللاعدالة، يكمن في التغيير الثقافي أو الرمزي، أي إعادة التقدير للهويات “المحتقرة The despised” والاعتراف وتثمين التنوع الثقافي، أو بشكل أشمل القلب الشامل لأنماط التمثيل الاجتماعية، هذا القلب قد يعدل من التصور الذي يصنعه كل واحد عن ذاته. هذه المجموعة من المطالب هي في الأخير مرتبطة بمسألة الاعتراف. ويرى التوجه الاقتصادي أن تلافي اللاعدالة يمر عبر مجموعة من التغييرات في البنية: كتورزيع الموارد، إعادة تنظيم تقسيم العمل، إخضاع قرارات الاستثمار لمراقبة ديمقراطية، والتحويل الجذري للوظائف الاقتصادية…..الخ. هذه المجموعة من المطالب ترتبط ب”إعادة التوزيع”. يتشعب هذان التوجهان للجماعات ضمن ضحايا اللاعدالة ففي إطار إعادة التوزيع يتعلق الأمر بالطبقات الاجتماعية بالمعنى الواسع والمحددة في المقام الأول من بين المصطلحات الاقتصادية حسب علاقاتها بالسوق وبوسائل الإنتاج. ويكمن المثال الكلاسيكي لهذا الأنموذج في الفكرة الماركسية حول الطبقة العاملة المستغلة. أما في إطار الاعتراف، فاللاعدالة غير مرتبطة بعلاقات الإنتاج، بل بسوء التقدير الرمزي والثقافي. ونذكر عموماً بهذا الخصوص الجماعة الإثنية التي تستبعدها الأنماط الثقافية المهيمنة، باعتبارها إثنية مختلفة وأقل قيمة وهو ما ينطبق على الأعراق، اللغات، والنساء.
تستدعي المطالبDemands المرتبطة بإعادة التوزيع في الغالب إلغاء النظم الاقتصادية التي تضع أسس قيام “نوعية” تشكل أساس خصوصية الجماعات والتي تحاول تكريس التفاوت بينها. وفي المقابل تميل المطالب المرتبطة بالاعتراف، والتي ترتكز على الاختلافات المزعومة من طرف الجماعات إلى تشجيع التمايز. يظهر هنا أن سياسة الاعتراف وسياسة إعادة التوزيع في توتر إذ في الوقت الذي تسعى فيه سياسة إعادة التوزيع إلى إزالة التمايز، تسعى سياسة الاعتراف على العكس من ذلك إلى إذكائه وتثمينه.
فكيف يمكن في خضم هذه المفارقة أن نفكر في العدالة؟ وهو ما دفع نانسي فريزر بداية إلى إعادة التفكير في الاعتراف وإعادة التوزيع كل على حدة.