القدرات اللوجستية للقوة العسكرية
#د_مهند_الجنابي
#مؤسسة_رؤى_للدراسات_والأبحاث
أفضى تصاعد الاهتمام الدولي بشأن التغيرات المناخية منذ اواخر القرن الماضي الى أن تحتل حيزاً مهماً على الأجندة الدبلوماسية، حتى باتت إحدى القضايا الدولية التي تفرض نفسها على العلاقات بين الدول، فالآثار المترتبة على ارتفاع درجات الحرارة وانبعاث الغازات لم تعد ترتبط بالمناخ فحسب، إنما تحولت الى إحدى القضايا المُقلقة للأمن القومي للعديد من الدول.
لا جدال في الأثر المدمر للتغيرات المناخية، فقد شهدت الأرض خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الـ21 ظواهر مناخية لم تشهدها من قبل في عنفها وتدميرها، فارتفاع حرارة الأرض احد الانعكاسات الخطيرة للتغيرات المناخية. فبعض أرجاء الكوكب لن تكون صالحة للسكن في العقود القادمة بسبب ارتفاع معدل حرارة الأرض، كما نجد انعكاسات التغير المناخي في تلوث الهواء، وفي الأزمات الغذائية الناتجة عن عدم انتظام المحاصيل وتأثر الزراعة بالظواهر المناخية الفجائية، كما نجدها على المستوى الديمغرافي، فقساوة الطبيعة تُهجر الملايين عبر العالم وتتسبب في أزمات صحية متواترة.
احتواء مبكّر .. واستجابة متلكئة.
في سعيها للسيطرة على ظاهرة الاحتباس الحراري، عقدت منظمة الأمم المتحدة في عام 1992 مؤتمر معني بالبيئة والتنمية عُرف بـ “قمة الأرض”، انبثقت عنه اتفاقية اطارية اُطلق عليها “إتفاقية الأمم المتحدة الاطارية بشأن تغير المناخ” واُلحق بها بروتوكول كيوتو الذي مقّعت عليه 154 دولة آنذاك لتبني سياسات من شأنها تثبيت تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يحول دون التأثير على النظام المناخي وبسقف زمني بدأ عام 1995 لتقييم استجابة الدول المتقدمة حتى عام 2008، والدول النامية حتى عام 2012.
وفي عام 2015، تبنّت 197 دولة اتفاق باريس الذي تضمن التزامات من جميع الدول لخفض انبعاثاتها والعمل معاً للتكيف مع آثار تغير المناخ، ودعا الاتفاق الدول إلى تعزيز التزاماتها بمرور الوقت، كما يوفر الاتفاق طريقاً للدول المتقدمة لمساعدة الدول النامية في جهود التخفيف من حدة المناخ والتكيف معها مع إنشاء إطارٍ للرصد والإبلاغ الشفافَين عن الأهداف المناخية للدول.
يوفر اتفاق باريس أيضاُ إطاراً دائماً يوجه الجهد العالمي لعقود قادمة. والهدف هو رفع مستوى طموح الدول بشأن المناخ بمرور الوقت. ولتعزيز ذلك، نصَّ الاتفاق على إجراء عمليتَي مراجعة، كل واحدة على مدى خمس سنوات.
على الرغم من الاستجابة المبكرة بوضع اطار قانوني لمكافحة الاحتباس الحراري إلا ان القدرة على الاستجابة لا تزال ضعيفة، كما ان الاثار المترتبة على هذه الظاهرة تزداد تعقيداً في ظل الحروب والأزمات الأمنية والاقتصادية التي تشهدها الدول النامية، فعلى سبيل المثال
تسبب تغير المناخ في العراق بآثار جعلت أمن البلاد وسياسته وتحدياته الاقتصادية أكثر سوءاً، إذ أدى ارتفاع درجات الحرارة والجفاف الشديد وتراجع هطول الامطار والتصحر وزيادة انتشار العواصف الترابية إلى تقويض القطاع الزراعي في العراق، فضلاً عن ذلك يعتمد الأمن المائي للعراق على نظام نهري دجلة والفرات المتدهور. عدم اليقين السياسي الوطني والإقليمي سيجعل التخفيف من آثار تغير المناخ ومعالجة إدارة المياه عبر الوطنية أمرًا صعبًا للغاية. من المرجح أن يكون للتغيرات المناخية مثل ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض هطول الأمطار، وزيادة ندرة المياه تداعيات خطيرة على حالة العراق لسنوات قادمة.
سياسات المناخ والصناعات العسكرية.
على الجانب الآخر من العالم، نجد ان الاستجابة العالية لمخاطر التغير المناخي أدخلت مصطلح “الجيوش الخضراء” الى حقل العلاقات الدولية، والذي يقصد به “تحويل القدرات اللوجستية للجيوش الى قدرات مراعية للبيئة عبر خفض انبعاثات الكربون لتصبح محايدة بحلول عام 2050، وجعلها كذلك متكيفة مع عوامل تغير المناخ المتوقعة”، ويتحقق ذلك عند الوصول الى هدف نقل القوات إلى ساحة المعركة في مدرعات تعمل بالبطاريات، ونشر طائرات وسفن ومركبات عسكرية تعمل بأشعة الشمس والوقود المستدام.
ففي شباط 2022 أصدر الجيش الأمريكي أول استراتيجية مناخية له على الإطلاق، في محاولة لتجهيز الخدمة العسكرية لعالم يعاني من صراعات في بيئات تعاني من الاحتباس الحراري.
وتهدف الخطة إلى خفض انبعاثات الجيش إلى النصف بحلول عام 2030 عبر تحويل جميع المركبات غير القتالية الى مركبات كهربائية بحلول عام 2035 وتطوير مركبات قتالية كهربائية بحلول عام 2050 ؛ وتدريب جيل من الضباط على كيفية الاستعداد لعالم أكثر سخونة وفوضى.
على الجانب الآخر من الاطلسي، قدّم ذراع الابتكار الدفاعي في وزارة الدفاع البريطانية 6 ملايين جنيه إسترليني عام 2022 لاستكشاف خيارات مستدامة لتوليد الطاقة والتخلص من الوقود والزيوت، وفقاً لإستراتيجية التحوّل نحو الطاقة النظيفة في الاستخدامات العسكرية.
أما على مستوى الاتحاد الأوروبي، فقد دفع ارتفاع اسعار الطاقة الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا الشركات الأوروبية للبحث عن مصادر بديلة للطاقة فيما يُعرف بمفهوم “الدفاع الأخضر”، فقد كثّفت وكالة الدفاع الأوروبية من جهودها لمساعدة وزارات الدفاع لدول الاتحاد الاوروبي وشركائها على تطوير نماذج للطاقة المستدامة، وذلك ضمن استراتيجية الحد من الاعتماد على الوقود الاحفوري.
أفضت الجهود الدولية في الاستجابة لتحديات التغير المناخي الى قطع اشواطاً في القطاعات المدنية والعسكرية المختلفة، وكما كان لتطوّر الحروب من جيل الى آخر من آثار كبرى على الاقتصاد والأمن والعلاقات الدولية، فمن المحتمل كثيراً أن تكون الجيوش الخضراء أو الدفاع الأخضر جيلاً حديثاً للحروب، وهو ما يضع العالم أمام تحول كبير في مجال التكنولوجيا ويسرّع من تغير آليات الحكومات في ادارة الدول.