#مؤسسة_رؤى_للدراسات
يقف العالم على أعتاب ثورة الذكاء الاصطناعي المرتقب اكتمالها في الأفق لتشكل تجربة “إنسان القرن الحادي والعشرين”، إذ بات الحراك التكنولوجي على وشك ما يشبه الانفجار العظيم الذي مهد بدوره لنشأة الكون، والفارق هنا أن مخاوف الذكاء الاصطناعي تأتي بفعل التقدم العلمي والتقني فيما لا تزال الكوارث المدوية ماثلة في ذاكرة التجربة البشرية مع العلم بانتصاراته وانكساراته، وما بينهما من تداعيات ومآسٍ، لتظل مخاوف البعض من مغامرة الذكاء الاصطناعي مشروعة وتساؤلات تهديداتها على مستقبل البشر لها وجاهتها، لكن مهلاً ماذا لو وصل بنا الحال إلى ساحة العدل، حيث نجد “الروبوت قاضياً”، وتكون مصائرنا معلقة تحت “عدالة الروبوت”؟
الذكاء الاصطناعي في ساحة العدل
هل نال منا الخيال قليلاً؟ ربما، لكن ماذا لو صار ما نتحدث عنه كافتراضية في الزمن الراهن يخضع للتجارب المعملية في بعض دول العالم، وله صدى بأرض الواقع في الشرق الأوسط؟
مستقبل القضاء في ظل الذكاء الاصطناعي تطرق إليه وزراء العدل العرب وعشرات الخبراء الدوليين في القانون، أمس الأحد، خلال جلسات “المؤتمر العدلي الدولي” المنعقد في الرياض، وينتهي اليوم الإثنين، تحت شعار “نيسر الوصول إلى العدالة بتقنيات رقمية”.
وتشمل محاور المؤتمر، وفق وزارة العدل السعودية، مستقبل التقنيات القضائية والتحول الرقمي في المجال العدلي وآفاق استثمار تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير العمل القضائي، إضافة إلى مستقبل التعاون والتجارب الدولية في المجال العدلي، ومشاريع الاتفاقات النموذجية للتعاون القضائي بين الدول بمشاركة أربعة آلاف خبير دولي، وأكثر من 50 متحدثاً من 33 دولة، ويشتمل على 15 جلسة نقاش وورشة عمل، إضافة إلى معرض التقنيات العدلية، وفعاليات مصاحبة تمكن المشاركين من مناقشة استراتيجيات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في قطاع العدالة.
طموحات ومخاوف
تباينت وجهات نظر المشاركين في شأن مستقبل ساحات القضاء وسط تطورات التحول الرقمي والسعي إلى توظيف الذكاء الاصطناعي في إطار مناقشة سبل تطوير القطاع العدلي وتنمية الخبرات وتبادل المعرفة، لتيسير الوصول إلى العدالة وطرح رؤى قيمة حول أفضل السبل للاستفادة من التكنولوجيا لتحسين أداء المحاكم والتحديات التي تواجهها.
ذهب فريق من المشاركين إلى أن العالم بعد المد الثوري للذكاء الاصطناعي لن يكون على الصورة التي كانت، إذ سيطاول التغير كل شيء، وأن تقنيات “العالم الجديد” قادرة على تحويل مستقبل البشرية للأفضل إذا ما أحسن استخدامها، فيما يرى المعارضون أن النظام العدلي مرتبط بالوعي البشري الذي هو مرتبط بالإنسان ويخضع لنظام بيولوجي شديد التعقيد تتشابك فيه الأبعاد الجسدية والنفسية والروحية، لذلك لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحاكي العقل البشري، ولا أن يحل مقام الوعي، فهو بالأساس قائم على معادلات خوارزمية حتمية المسار محدودة المدى.
القضاء ومقاومة التغيير
يقول وزير العدل السعودي وليد الصمعاني إن القضاء والقانون من أصعب المتقبلين للتغير والتحول، فيما أكد أن رقمنة القطاع واستخدام الذكاء الاصطناعية فيه مسار وليس خياراً. وأشار إلى أن التحول الرقمي أصبح واقعاً في جميع قطاعات بلاده وأساساً لتحقيق الضمانات القضائية، لا سيما القطاع القضائي والقانوني.
وأضاف الصمعاني أن عناصر العمل القانوني، سواء من ناحية الواقع أو الإجراءات كلها عناصر أساسية، وطبيعتها تنسجم مع كل المتغيرات المتعلقة بالتحول الرقمي الذي لا يمثل تحدياً للضمانات القضائية، بل هو أساس لتحقيقها.
الروبوت المحامي الأول سيدخل محاكم أميركا بعيد تجربة صينية قاسية
وحذر وزير العدل المغربي عبداللطيف وهبي من مخاطر الرقمنة على منظومة العدالة، معتبراً أن “الرقمنة بقدر ما تسهل التعامل داخل العدالة وتسهل الخدمات وتخدم المتقاضين بالقدر نفسه، فإنها قد تشكل خطراً على العدالة، وقد تمس بقيم وقناعات تشكلت عبر عقود خدمة للعدل وللمحاكمة العادلة. وشدد على عدم إخضاع القاضي للآلات والأجهزة التي تحدد له قناعاته التي يجب أن يكون عليها بناءً على كثير من العوامل القانونية والشخصية والذاتية، بما فيها تقدير ظروف ارتكاب الجريمة قبل النطق بحكمه، مشيراً إلى أن الرقمنة مفيدة في تسريع الإجراءات والتدابير وكسب الوقت وتسهيل الإجراءات، لكن مخاطرها قد تتجلى كذلك في إلغاء قيمنا وخصوصياتنا وإنسانيتنا. وأضاف “عندما نعمم حكم الآلة على جميع الحالات سنلغي دوراً مهماً ورئيساً، وهو القناعات الشخصية للقاضي قبل النطق بالحكم”.
وشاركت وزيرة العدل التونسية ليلى جفال نظيرها المغربي الرأي، إذ ترى أنه لا يمكن التسليم التام للرقمنة في الأحكام القضائية لأن العلاقة في التقاضي بشرية بدلالاتها النفسية والحسية. فالقاضي يمتلك هذه المعايير بخلاف الآلة، ومن المستحيل أن يحتل الذكاء الاصطناعي مكان القضاة في المستقبل.
ثورة لا يمكن إخمادها
في السياق، أبدت سكرتيرة في وزارة القانون في سنغافورة، وراهاية ماحزم، حماساً، وأعلنت أن ثورة الذكاء الاصطناعي لا يمكن إخمادها، كما لا يمكن لها أيضاً أن تسيطر على العالم، لكن علينا الاستفادة منها في تيسير العمل، فالتقنية موجودة من أجل رفع جودة العمل للبشر بشكل أفضل. وأشارت إلى أنه لا يمكننا أن نستبدل بأهمية وجود المحامين والتحليل القانوني الذي يأتي من البشر، الذكاء الاصطناعي.
أضافت أن نجم العام الحالي هو “شات جي بي تي” الذي كان ضجيج الذكاء الاصطناعي. وأشارت إلى أنها طرحت نقاشاً في برلمان بلادها في شأن مدى الاستفادة من هذه التقنية في القضاء.
ويرى نائب رئيس الوكالة الأوروبية للتعاون القضائي “بشتيان شكرلك” أن الأنظمة القضائية يجب أن تكون متقدمة أكثر مما هي عليه، فالجرائم الإلكترونية تتم بضغطة زر. فهل الذكاء الاصطناعي سيقضي على الذكاء البشري؟ وهل تتولى الروبوتات معظم المهام وتستولي على وظائف البشر خلال العقد المقبل؟ أسئلة كثيرة مقلقة.
وفقاً لصحيفة “وول ستريت”، فإن علماء الكمبيوتر في جامعة كوليدج البريطانية طوروا منذ سنوات برمجيات قادرة على تحليل الأدلة وموازنة الأسئلة الأخلاقية وتحديد الصواب من الخطأ بمهارة يمكنها التنبؤ بشكل صحيح بنتائج محاكمات حقوق الإنسان في أكثر من ثلاث حالات من أصل أربع، وفقاً لـ”الغارديان” البريطانية.
وأشارت الصحيفة إلى أن “قاضي الذكاء الاصطناعي” حلل مجموعات بيانات باللغة الإنجليزية لـ584 قضية تتعلق بالتعذيب والمعاملة المهينة والمحاكمات العادلة والخصوصية التي عرضت على المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وبالنسبة لـ79 في المئة من تلك القضايا، كان “الحكم” الصادر عن البرنامج هو الحكم نفسه الصادر عن قضاة بشريين حقيقيين في المحكمة.
روبوت القضاة
يذهب الباحث الرئيس بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجليس نيكولواس أليترا إلى أن “الذكاء الاصطناعي لن يحل محل القضاة أو المحامين، لكننا نعتقد أنهم سيجدونه مفيداً في تحديد الأنماط بسرعة في القضايا التي تؤدي إلى نتائج معينة”، بحسب قوله لصحيفة “الغارديان”. وأضاف “يمكن أن يكون أيضاً أداة قيّمة لتسليط الضوء على الحالات التي من المرجح أن تكون انتهاكات للاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”.
في السياق ذاته، نشرت صحيفة “ذا فيرج” الأميركية المتخصصة في التكنولوجيا أن شركة “دونت باي” البريطانية أعلنت في منتصف ديسمبر (كانون الأول) 2022، تطوير أول محامٍ روبوت يعمل بالذكاء الاصطناعي، وأوضحت أنه يتم تشغيل “المحامي الروبوت” بواسطة الهاتف الذكي، مشيرة إلى أنه يستمع إلى مرافعات المحكمة ويقدم للمدعى عليه إجابات مناسبة وفورية، وتعهدت الشركة تحمل الغرامات المالية في حال إخفاق الروبوت في قضية ما.
وفي عام 2020 ذكر تقرير نشرته صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية، نقلاً عن المتخصص في الذكاء الاصطناعي تيرينس موري، أنه “بحلول 2070 ستحل الروبوتات الاصطناعية محل القضاة، وستكون مسؤولة عن تحليل لغة الجسد، لقدرتها على اكتشاف علامات الكذب التي لا يمكن للإنسان اكتشافها في معظم القضايا، بالتالي سيكون الحكم دقيقاً ومنصفاً، وقد يصل إلى نسبة 99 في المئة”. وأضاف “أنها ستصبح سمة مشتركة في معظم جلسات الاستماع الجنائية والمدنية في إنجلترا وويلز بحلول أوائل سبعينيات القرن الحادي والعشرين.
ويذهب موري أن هذه الروبوتات ستتحدث كل لغة معروفة بطلاقة، وستكون قادرة أيضاً على اكتشاف علامات الكذب التي لا يمكن للإنسان اكتشافها، وكل ذلك بفضل وجود كاميرات تلتقط وتحدد أنماط الكلام غير المنتظمة، والزيادات العالية بشكل غير عادي في درجة حرارة الجسم وحركات اليد والعين، والتي سيتم تحليلها بعد ذلك لتقديم حكم “خالٍ من الأخطاء”، حيث ستحدد بدقة متناهية ما إذا كان المدعى عليه أو الشاهد يقول الحقيقة أم لا.
ويعتقد خبير الذكاء الاصطناعي، بناءً على دراسة أجراها استمرت لمدة عامين، أن الذكاء الاصطناعي سيوفر شكلاً جديداً وأكثر عدلاً للعدالة الرقمية، حيث ستصبح المشاعر الإنسانية والتحيز والخطأ شيئاً من الماضي. فجلسات الاستماع ستكون أسرع، وستقل احتمالات إدانة الأبرياء بجريمة لم يرتكبوها.
يشار إلى أن فكرة استخدام “الروبوت القاضي” في المحاكم تمت بالفعل في جمهورية إستونيا، شمال أوروبا، حيث تم استخدام قاضٍ يعمل بالذكاء الاصطناعي لتسوية دعاوى قضائية صغيرة تصل إلى ستة آلاف جنيه استرليني، مما أتاح للقضاة البشريين التفرغ لقضايا أكبر.
كما تستخدم الصين نظام قضاة الذكاء الاصطناعي والمحاكم الإلكترونية والأحكام الصادرة على تطبيقات الدردشة منذ عام 2017، فقد عالجت “المحكمة المتنقلة” التي تم إنشاؤها على منصة التواصل الاجتماعي الصينية الشهيرة “We chat” وأكثر من ثلاثة ملايين قضية قانونية أو إجراءات قضائية أخرى منذ إطلاقها، تضمنت النزاعات التجارية عبر الإنترنت وقضايا حقوق الطبع والنشر وقضايا أخرى متعلقة بمنتجات التجارة الإلكترونية.
مكتب محاماة أجنبي في الرياض
وعلى هامش المنتدى العدلي سلم وزير العدل السعودي وليد الصمعاني أول ترخيص لمكتب محاماة أجنبية في البلاد، فقد كان النظام في السابق يسمح لشركات المحاماة فقط بالاستعانة بمحامين أجانب كمستشارين قانونيين، وبموجب الإصلاح يمكن للمحامين الأجانب الذين يعيشون ويعملون في السعودية الآن تمثيل طرف ثالث أمام المحاكم وديوان المظالم واللجان الأخرى.
ويأتي ترخيص مكتب المحاماة الأجنبي في النظام السعودي الجديد بشروط من أبرزها أن يكون المكتب ذا سمعة دولية متميزة في المجال القانوني، وأن يكون ترخيص المزاولة سارياً في مقره الرئيس طوال الفترة، وأن يمتلك المكتب خبرة لا تقل عن 10 سنوات متصلة بالمجال القانوني، وأن يكون للمكتب تمثيل وشراكة في ما لا يقل عن ثلاث دول مختلفة أو خمس ولايات في دولة واحدة في حال كانت الأنظمة التشريعية للولايات مختلفة.
تبادل الخبرات القانونية
يقول المحامي السعودي خالد اليوسف “المواطن كان في السنين الماضية يتطلع إلى بيوت الخبرة التي من شأنها المشاركة في رفع كفاءة التنظيم الإداري وأساليب العمل في مكاتب المحاماة، وإن السماح لبيوت الخبرة بحسب الاشتراطات الدقيقة التي جاءت في التعديل ستحقق الهدف”.
وأوضح اليوسف أن أعمال المكاتب الأجنبية جاءت في الخانات المكملة للمحامين المحليين، فقد قصر الترافع عن الغير على المحامي السعودي المرخص وحصر النظام الجديد أعمال الشركات الأجنبية في تقديم الاستشارات المتعلقة بالقانون الدولي والاستشارات المحلية شريطة تقديمها من خلال محامٍ مرخص وخدمات التحكيم والوساطة التي من طبيعتها إمكانية دخول المحكمين الأجانب بموجب شرط أو مشارطة التحكيم بموجب نظام التحكيم، وفي تقديم الاستشارات لمشروعات نوعية أو متخصصة أو لدراسات في مجال التشريع لسد العجز الذي يواجه التطور المتسارع والانفتاح على الاستثمارات المتنوعة، والتي تستلزم عقوداً معقدة.
في السياق ذاته، يضيف المستشار القانوني وعضو اتحاد المحامين العرب عبدالمنعم محمد يسري أن تعديلات نظام المحاماة في البلاد جاءت داعمة لحاجة ومتطلبات المهنة لما لها من أثر إيجابي في نقل وإثراء الخبرة اللازمة لمتطلبات المهنة وسوق العمل في مجال القانون الدولي.
يشار إلى أن عدد المحامين في البلاد بلغ 18 ألف محامٍ، وفقاً لآخر إحصائية لوزارة العدل السعودية الصادرة خلال 2021.
في السياق أشار المحامي محمد العزي إلى أن المنافسة في المجال ستكون للشركات المتخصصة، ويعتقد أن دخول شركات المحاماة الدولية ستحدث توجهاً ونمطاً جديدين في سوق المحاماة، وسيكون هناك تنافس كبير بين الشركات المحلية والأجنبية.