#حسام_الغزالي
#مؤسسة_رؤى_للدراسات
إنها الجملة التي تفوهت بها طفلة سورية تحت أنقاض الزلزال، هي تعلمت أن هذه الحياة القاسية سلبت معنى البراءة بكل تفاصيلها.
هي ما كانت لتتفوه بهذه الجملة لولا الكثير مما رأته وشاهدته بسنين عمرها القليلة.
“عمو بس طالعني وبشتغل عندك خدامة”، لقد أيقنت منذ ولادتها أن كل شيئ في عالمها الطفولي الصغير يجب أن يكون بمقابل كبير، فمازالت تساير بقايا الحرب في بلدها، وجموع التشرد والعذاب والضياع والفقر، لتعرف أنها “ابنة القليل”، و”ابنة التعثر” و”ابنة الهشاشة”، و”ابنة اللاوطن”، لتعرف أنها مجرد رقم طارئ على هذه الحياة، بل ولربما كانت تظن أنها لا تستحق حتى أن تعيش في هذه الحياة، وإن كان وأرادت أن تحيا فعليها أن تقدم مقابل ذلك شيئاً باهظ الثمن.
لقد قدمت للمنقذ جملة قاسية “طالعني وبشتغل عندك خدامة” جملة ما كانت لتقولها لو عرفت أن هناك حقوقاً للإنسان، ما كانت لتقولها لو علمت أنها بالإصل إنسان، ما كانت لتقولها لو نشأت في مجتمع يراعي حقوق الإنسان وحقوق الأطفال.
جملة هذه الطفلة قاسية لدرجة أنها كانت قبل الحادثة تعرف أنها تحمل جنسية رخيصة، وأنها تعيش فوق أرض رخيصة، وولدت في زمن أرخص ما فيه الإنسان، وأرخص ما في الإنسانية الطفولة وبراءة الأطفال.
“عمو بس طالعني وبشتغل عندك خدامة” هي ليست جملتها وحدها، إنها جملة أطفال سوريا جميعاً بعد أن عرفوا أن الإنسانية وقوانين حقوق الإنسان في هذا الزمن وصلت إلى درجة تجعلهم موقنين أن لا شيئ إلا وله مقابل، فهي لا تصدق أن هذا المُسعف والمنقذ سيُخرجها دون مقابل، بل لا تصدق أن يمد لها يد المساعدة إلا بمقابل، فسارعت لتقدم له المقابل وفق ما تعلمته خلال سنين عمرها القليلة من قسوة هذه الحياة.
كلماتها كانت مزلزلة للمُسعف ولقلوب كل من شاهدها بقوة تضاهي الزلزال نفسه، فالزلزال حدث عرضي طبيعي يصيب أي بقعة على وجه الأرض ويؤثر على القاطنين فوق هذه الأرض من بشر وغيرهم من الكائنات.
لكن أن ترى هذه الصغيرة نفسها رخيصة إلى الحد الذي تبيع نفسها كخادمة للمسعف والمنقذ، ليس حدثاً عادياً أو عرضياً، فجملتها الطبيعية يجب أن تكون “عمو ساعدني” … ساعدني دون مقابل لأن هذا واجبك تجاه الضحايا، وواجبك كإنسان تجاه الطفولة، وواجبك كمسعف تجاه الجرحى، أما أنها قالت أعمل عندك كخادمة، فهذا يعني قطعاً أنها تدرك بفطرتها السليمة أنها تعيش في زمن الوحوش، في زمن كانت فيه تمرض ولا مسعف، في زمن تبرد ولا دفء، تجوع ولا طعام، في زمن تعمل وهي في طور البراءة، في زمن جعلها تقاسي دون ذنب سوى كونها ولدت في مكان وزمان لا يراعي الإنسان فيه حق الإنسانية أو حق الطفولة.
“عمو بس طالعني وبشتغل عندك خدامة”
وصمة عار على جبين الحكومات، وعلى جبين المنظمات، وعلى جبين تاريخنا وحبين من يدعون حقوق الإنسان وحقوق الإطفال، إنها وصمة عار على جبين الإنسانية، وصمة عار كانت مخفية وكشفتها نائبات الزلزال، والقادم لن يكون سوى أدهى وأمرّ.