#مؤسسة_رؤى_للدراسات
#صباح_ناهي
بنيت مدينة الكوفة بأمر الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، وأسسها الصحابي سعد بن أبي وقاص، كمعسكر للجند عام 638 ميلادية بعد معركة القادسية التي تحرر فيها العراق من السيطرة الفارسية، وهي قريبة من الحيرة، عاصمة المناذرة الشهيرة التي سبقتها بقرون.
وكانت الكوفة ثاني مدن العرب في العراق، بعد البصرة، لكنها صارت ثاني عاصمة للخلافة الراشدة، في زمن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وبعده في حكم ابنه الإمام الحسن بن علي، بعد الانتقال من المدينة المنورة لتكون أول عاصمة إسلامية للعراق القديم، حتى انتقلت الخلافة زمن الأمويين إلى دمشق، ومن ثم العباسيين عند توليهم الحكم عام 750 ميلادية، الذين مكثوا أولاً في الكوفة، ثم الهاشمية في الأنبار زمن أبي العباس السفاح وأخيه أبي جعفر المنصور العباسي، مؤسس بغداد وبانيها.
من عاصمة إلى قضاء
الكوفة اليوم مركز قضاء يتبع إدارياً محافظة النجف في الفرات الأوسط، تبعد 156 كيلومتراً جنوب العاصمة بغداد، وعشرة كيلومترات شمال شرقي مركز المحافظة، وتتميز بمسجدها التاريخي، ومرقدي مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وهانئ بن عروة، وبيت علي بن أبي طالب.
وكانت الكوفة المدرسة التي ينهل منها القاصي والداني وركناً من أركان الحضارة الإسلامية والعالم المحيط بها، على حد وصف الباحث هاشم حسين المحنك، في مؤلفه “موجز تمصير الكوفة وعمرانها”، الصادر عن جامعة الكوفة.
وتسمية الكوفة تعود إلى أرض المدينة التي تتميز برمالها الحمراء المختلطة بالحصى، وهو توصيف عربي لكل أرض بهذه المواصفات، والبعض يرى أن تسميتها جاءت من أن الصحابي سعد بن أبي وقاص أمر ببناء المدينة حين قال، “تكوفوا في هذا المكان”، أي استقروا.
وتعد الكوفة من أوائل المدن العربية التي اتخذت قاعدة عسكرية، ثم تحولت إلى منصة ثقافية فكرية للعرب، تضم مجاميع من المدارس في علوم اللغة والفقه والاجتهاد، لا سيما أن خطب الخليفة علي بن أبي طالب وحواراته دارت فيها، كذلك فقه الصحابة، حيث يعد مسجد الكوفة واحداً من أهم مراكز الفقه والعلوم، واتسعت المساجد فيها لتبلغ 30 مسجداً عامراً يؤمها الزوار من كل الأمصار الإسلامية، وأنشئت فيها واحدة من مدرستي الاجتهاد الأصولية، في علوم اللغة والحديث، تنافست مع مدرسة البصرة التي تفوقت عليها في النحاة، لكن الكوفة تميزت بعلوم الفقه ومدارس الفكر وبأنواع الخط العربي.
إرث الكوفة
وعن قيمة الإرث الحضاري الذي تحقق في الكوفة يقول الأستاذ حسن عيسى الحكيم رئيس جامعة الكوفة لـ”اندبندنت عربية”، “أصبحت المدينة بمثابة مدرسة إسلامية كبيرة، تضاهي مدرسة البصرة، بخاصة بعد أن ألقى الخليفة الإمام علي بن أبي طالب بحوثه وخطبه التاريخية فيها، وكذلك الصحابة الذين سكنوا فيها كان لهم دور في الحياة العلمية، وأيضاً أئمة أهل البيت، حيث انتعشت المدينة، وأصبحت كمدرسة كبرى في عهد الإمام جعفر بن محمد الصادق، زمن أبي جعفر المنصور، وبدايات العصر العباسي”.
ولم تستمر الكوفة على وهجها وتألقها، إذ انحسر دورها مرتين، الأولى في العصور القديمة والأخرى في التاريخ المعاصر، ويوضح الحكيم قائلاً إن “الانحسار الأول كان في الزمن الأموي، حينما بدأت الثورات تجتاحها ضد الدولة الأموية التي استخدمت العنف تجاه الثوار بعد انتقال السلطة والخلافة إلى بلاد الشام”.
النجف تحلم بطريق حرير مع السعودية لجذب الحجاج والمعتمرين
ويعلل الحكيم أسباب اختيار الإمام علي لها كعاصمة، قائلاً، “بعد وصول خليفة المسلمين وقتها، قبيل معركة الجمل، اتخذها عاصمة له، ونقل إليها التنظيمات الإدارية كلها، وبعد أن انتهت المعركة أصبحت هي العاصمة الأساسية، فلو أن الإمام عاد للمدينة لاستطاع الأمويون السيطرة على العراق، ولذلك فإنه قطع خط العودة عليهم برجوعه من البصرة إلى الكوفة”.
أما عن صورة واقعها الحالي فيقول الحكيم إن “الكوفة اليوم هي جزء من محافظة النجف، وتضم جامعة تحمل اسمها، ومن الممكن النهوض بالمدينة إذا توافرت عناية إدارية من قبل المسؤولين، باستغلال معالمها الحضارية والتاريخية، ويمكن أن تعاد إليها الحياة إذا استخدمت الأساليب العلمية الحديثة، وكذلك الحال في منطقة النجف الأشرف، فلو استغلت منطقة بحر النجف لأصبحت منتجعاً حضارياً وسياحياً”.
مد وجزر
شهدت الكوفة تاريخاً من المد والجزر، صعوداً وخفوتاً، جراء الحملات التي تعرضت لها، ونمط الحياة الذي فرض عليها والعيش الذي تأثر بالصراعات السياسية المختلفة، مما تسبب في تصدع مسيرتها العلمية والحياتية.
يقول الباحث مضر الحلو إن المدينة “مرت بمراحل متباينة، في الأولى كانت الحاضرة الأشهر والأكبر، والأكثر تأثيراً في الأحداث، خصوصاً فترة الخلافة الراشدة، وظلت هي الحاضرة الأبرز حتى بعد تأسيس بغداد، إذ اعتمدت الأخيرة على الكوفة التي أمدتها بالعلماء”.
ويضيف، “أزعم أن نجم بغداد بدأ يأفل بعد انتقال الحوزة العلمية إلى النجف، عقب مجيء الشيخ الطوسي الذي عاش في بغداد أولاً، ثم ذهب إلى النجف، قبل ألف عام تقريباً، فانتقلت معه الحوزة، وتبعه طلابه ومريدوه، فتأسست عند ذاك حوزة النجف، ومع وجود ضريح الإمام علي، خفت بريق الكوفة، بينما لمعت النجف حتى يومنا هذا”.
وتابع الحلو، “مع أن الكوفة تتميز بمناخ أفضل وهواء عذب مع وجود نهر الفرات، وعلى رغم كونها منطقة زراعية وبها كل مقومات النجاح لتكون معمورة أكثر من النجف التي هي مدينة صحراوية صخرية مرتفعة جداً عن مستوى سطح البحر، إلا أن الأخيرة استحوذت على اهتمام الناس، وبدأوا يتهافتون عليها حتى ضعفت الكوفة، وانحسرت”.
وعن أسباب هذا الوضع، يقول مضر الحلو، “ما شهدته الكوفة، لا علاقة له بعمل مدبر أو تعتيم مقصود، ولا يتحمل سكانها وزر ما آلت إليه، فقد فرغت من حضورها، وتخلت عن دورها العلمي لصالح النجف، بسبب رئيس هو وجود ضريح الإمام علي، الذي لولاه لما انتقل الشيخ الطوسي والمرجعية كلها”.
إشاعة الخذلان
هناك من الباحثين من يرى أن وراء انحسار دور الكوفة سيل من الأفكار التي أحاطت بها وروجت لفكرة كونها مدينة “خذلان لآل البيت”، ما حال دون إعمارها السياحي ونموها الاقتصادي والثقافي. يقول الحلو، “نعم أشيع ذلك، وألصق بالكوفة الغدر والخيانة، وهناك نصوص ومصادر تؤكد ذلك، لأنها كانت تحمل لواء المعارضة للنظام الأموي، وكذلك للعباسيين، فكان لهم موقفهم السلبي منها، ومن ثم ظهرت تلك الأفكار وظلت إلى الآن، لكني لا أعتقد أن ذلك وراء تهميشها الآن، أو تحول دون إعمارها”.
يشارك الأستاذ في جامعة الكوفة كاظم مسلم العامري، وهو واحد من أبناء القبائل التي توطنت في الكوفة منذ قرون، بتشخيص واقع المدينة الحالي بقوله إنها “تعاني اليوم الإهمال والتخلف العمراني”، مشيراً إلى أن “أول من سكنها عشيرة البو عامر، ثم سكنتها عشائر خفاجة والخزاعل وقريش وعبادة وبني حسن وآل عيسى وشمر وطفيل، ونمت من طرف واحد إلى عدة أطراف سكنية، وأسس فيها الملك الفيصل الثاني في عشرينيات القرن الماضي قصراً منيفاً لما فيها من بساتين خلابة وما يتميز به جوها من اعتدال، إضافة إلى جمال نهر الفرات الخالد، حتى إن إحدى الصحف النجفية الصادرة في العشرينيات، كانت تطلق عليها فينيسيا الفرات، إذ كانت مرتعاً للسياح من كل الأجناس”.
وفي عام 1976 ظهر اقترح بأن تكون الكوفة مركز المحافظة، غير أن وفداً من وجهاء مدينة النجف التقى الرئيس أحمد حسن البكر حينذاك وأقنعه بنقل المركز إلى النجف، فتركز العمران فيها، فضلاً عن احتوائها على مرقد الإمام علي، مما يجلب لها الزائرين من كل أنحاء العالم الإسلامي، بينما بقيت الكوفة مدينة ضعيفة التخطيط والعمران، وعانت الإهمال وسوء النمو والتطور، كما أن العشوائيات السكنية زحفت إليها بعد 2003، بسبب التغيرات التي طرأت على أسلوب إدارة الحكم وجشع تجار الأراضي العقارية وعدم تأسيس أحياء سكنية جديدة.
سبل النهوض
وعن سبل نهوضها المحتمل، يقول العامري، “إذا أريد للكوفة أن تنهض من جديد، فمن الممكن تأسيس نواحٍ جديدة، ومن ثم جعلها مركزاً لمحافظة جديدة، وتحويلها إلى حاضرة مدينة تؤسس فيها المرافق العامة المتطورة، كالمستشفيات والأسواق العصرية والأحياء السكنية الحديثة، ومعالجة التلوث الذي تعانيه جراء إلقاء مياه الصرف والمستشفيات في نهرها الفرات، فضلاً عن تلوث جوها بفعل معامل الأسمنت”.
وبسبب احتلال الموصل من قبل تنظيم “داعش”، استقبلت محافظة النجف، ومنها الكوفة، عائلات مختلفة، كرد وتركمان وغيرهم، ويزورها أيضاً ويقيم فيها طلاب العلوم الدينية الذين يدرسون في حوزاتها، ويأتون من إيران وباكستان وأفغانستان وأفريقيا، ويقدر عددهم بعشرات الآلاف.