د. نجيبة ابراهيم أحمد
يعد (أكسل هونيث Axel Honneth-) واحداً من أبرز ممثلي الجيل الثالث للمدرسة فرانكفورتية النقدية حيث توصل هونيث ومن خلال نقده لأنموذج التواصل لدى هابرماس، كان قد توصل إلى قناعة مفادها: أن نظرية التواصل لم تعد كافية لتفسير النزاع إلاجتماعي، لذلك كان لابد من بلورة براديم جديد تحت مسمى الاعتراف (Confession) ، معتمداً في ذلك على نتائج العلوم الاجتماعية (علم الاجتماع، علم النفس والتحليل النفسي)، ومن ذلك خلال انفتاحه العلمي على أعمال عالم الاجتماعي البراغماتي (جورج هربرت ميد-G.H.Mead) وعالم النفس الإنكليزي (دونالد وينيكوت-D.Winnicott). وفي الوقت نفسه، فقد اعتمد هونيث على الفلسفة الهيغيلية في هذا المجال. وترجع أهمية هيغل إلى كونه أول فيلسوف درس العلاقات الاجتماعية بوصفها علاقات بين ذوات تسعى لتحقيق الاعتراف المتبادل من خلال ما يسمى بالتذاوت أو البينذاتية الذي يميز حياة البشر. وهذا ما عبر عنه هيغل في كتابه “فينمينولوجيا الروح” بقوله: “فكل طرف من جهة ما هو وعي فإنما يخرج فعلاً على ذاته، بيد أنه في كونه خارج نفسه إنما يظل في الحين ذاته منحبساً في ذاته، فيكون لذاته، ويستقيم له خروجه على ذاته. وما يتضح هو أنه في- الحال وعي آخر كما أنه ليس في- الحال وعياً آخر، مثلما يتضح له أن هذا الآخر لا يكون لذاته إلا من جهة أنه هو الذي يستنسخ ككائن لذاته، وأنه لا يكون لذاته إلا في الكون لذاته الذي للآخر، فكل طرف هو للآخر حد أوسط، به يتوسط نفسه، فيقترن بها، وكل هو لنفسه كما للآخر، ماهية كائنة لذاتها في- الحال، لا تكون في الوقت نفسه لذاتها إلا بمعيّة ذلك التوسط. والطرفان يعترفان نفسيهما من جهة اعترافهما ببعضهما اعترافاً متبادلاً”. وهذا على النقيض من التقليد الفلسفي السياسي الذي كان سائداً في الحقل السياسي والأخلاقي وخاصة لدى كل من ميكافيلي وتوماس هوبز، وهو تقليد قام على فكرة الصراع المستميت والحرب الضروس بين البشر، والبحث المستمر عن الوسائل الأنجع لإشباع رغباتهم وحاجاتهم ضمن ما يسمى بـ”الصراع من أجل البقاء”، وهو صراع تتناقض فيه الرغبات والإرادات الإنسانية. فقد صور “توماس هوبز،Thomas Hobbes” العلاقات بين البشر قبل تأسيس أو نشأة المجتمع السياسي على أنها كانت حالة حرب وإقتتال وصراع مستميت بين الناس، فلم يكن أحد يأمن على نفسه وماله فقد تميزت “حالة الطبيعة ” بالمنافسة وحب الانتصار والمجد، وهذا يعني أن كل إنسان كان يطلب تحقيق ذاته على نحو أناني، حفاظاً على نفسه إذ أصبح “كل إنسان عدواً للإنسان” والكل يخاف الكل وأنه لم يكن للإنسان إلا أن يحارب باستمرار أو يمكث خائفاً من عدوان الآخرين، وبذلك امتازت حالة الطبيعة –حسب هوبز بأنها كانت حالة فقيرة، شاقة، شبة متوحشة ومحدودة.
وهذا يعني أن هونيث قد عاد إلى كتابات هيغل لتأسيس “نظرية الاعتراف المتبادل ” رغم أنه لم يكتف بهذه الكتابات على الرغم من تأكيده على فكر هيغل.
ويمكن القول: إن مشروع هونيث الفلسفي يهدف إلى تأسيس نظرية اجتماعية جديدة والغرض منها هو مُراجعة النظرية النقدية لكي تتلاءم مع التطورات الحديثة والمعاصرة وتستجيب للتطلعات الإنسانية الحالية. وتتمثل المهام الرئيسية لنظريته ما يأتي:-
أ-مهمة وصفية: تقوم على تشخيص وفهم العمليات الاجتماعية “المرضية” على مستوى التجارب الفردية والجماعية، والتي تعرقل من الناحيتين الاجتماعية والأخلاقية، لتحقيق الأفراد والجماعات حياة كريمة.
ب- مهمة معيارية: تقوم على تحديد ومعرفة ماهية معايير وأشكال الحياة الاجتماعية الناجحة.
هاتان المهمتان تشكلان، في منظور هونيث، وحدة متكاملة بين الطابع الوصفي والطابع المعياري من الناحية النظرية، بحيث تظهر الأخيرة كنظرية نقدية للمجتمع، على هذا الأساس قام هونيث في كتابه:”الصراع من أجل الاعتراف” بإعادة بناء التجربة الاجتماعية انطلاقاً من أشكال الاعتراف التذاوتي، التي يعتبرها هونيث مؤسسة لهوية الفرد، حتى تحقق الذات وجودها وتنال الاعتراف من الغير. لذلك حاول هونيث إعادة إدماج بنيوي لأشكال الصراعات الاجتماعية وأنماط التجارب الأخلاقية المعاشة ضمن أنموذج معياري للاعتراف المتبادل، لأن هذه الصراعات هي شكل من أشكال “الصراع من أجل الاعتراف”، وهو بذلك يختلف عن يورغن هابرماس الذي يرى أن الاعتراف هو نمط من”الاحترام المتبادل “، الذي يتم بين المتحاورين أثناء عملية النقاش، التي تهدف بدورها إلى تحقيق التفاهم والإجماع، بحيث يؤدي الحوار تماشياً مع مقتضيات الفعل التواصلي الرامية إلى تأسيس بناء اجتماعي مترابط وخال من كل أنماط وأشكال العنف والسيطرة. ولاشك في أن هونيث يقدر نظرية التواصل لهابرماس، فقد أشار في كثير من كتاباته وحواراته إلى أهميتها بل ذهب إلى القول بأن مشروعه الفلسفي ليس إلا تعميقاً لما توصل إليه هابرماس، غير أن هذا التقدير لم يمنعه من تسجيل بعض النقاط النقدية تجاه فيلسوف التواصل الاجتماعي هابرماس.
فقد طرح (هونيث) نقداً أساسياً لهابرماس وبيّن أن مقاربته تجاهل جملة العوامل والشروط الاجتماعية الفعلية، واكتفت بتحليل النشاط العقلاني التواصلي الذي يتم بين البشر، وعن طريق النقاش القائم بين المتحاورين. بل يشدد على أن مقاربة هابرماس بقيت سجينة القواعد والمعايير الصورية للتواصل. وبذلك استبعدت المقاربة الهابرماسية الأبعاد الجسدية والانفعالية والنفسية للفعل الاجتماعي، ولم تولِ اهتماماً يذكر للتجارب الأخلاقية المتعلقة بأشكال الظلم الاجتماعي، وفي آخر المطاف عجزت عن القيام بتشخيص حقيقي لأحوال المجتمع المرضية.