#مؤسسة_رؤى_للدراسات
أثار تداعي بنوك أميركية كبرى لإيداع 30 مليار دولار في بنك “فيرست ريبابليك” لدعم السيولة فيه كي لا يلحق البنوك المنهارة في الأيام الأخيرة مخاوف بعض الاقتصاديين من انتقال أزمة البنوك الصغيرة والمتوسطة إلى البنوك الكبرى. فحتى الآن تنحصر الأزمة التي أدت إلى انهيار ثلاثة بنوك في غضون أيام، في مقدمتها بنك “وادي السيليكون” بين البنوك التي تقل قيمتها السوقية عن ربع تريليون دولار.
تظل البنوك الكبرى مثل “جيه بي مورغان تشيس” و”بنك أوف أميركا” و”سيتي غروب” و”غولدمان ساكس” و”ويلز فارغو” في مأمن حتى الآن بسبب توافر السيولة لديها، نظراً إلى حجمها وقدرتها على تحمل “الخسائر غير المحققة” الناجمة عن انخفاض قيمة ما بحوزتها من سندات الدين نتيجة ارتفاع العائد عليها مع رفع أسعار الفائدة.
أدت الأزمة الأخيرة للبنك السويسري الكبير “كريدي سويس” إلى بعض المخاوف من انتقال أزمة المصارف الأميركية إلى أوروبا بالتالي احتمال ولو ضئيل بحدوث أزمة مالية عالمية كسابقتها في 2008. إلا أن أغلب المحللين والاقتصاديين يستبعدون أن تؤدي أزمة المصارف الحالية في الولايات المتحدة إلى مشكلة في النظام المالي وركود كما حدث قبل 15 عاماً. ذلك على رغم أن مشكلة البنوك المنهارة التي تتعرض للضغط في الولايات المتحدة سببها هبوط قيمة السندات التي بحوزتها مع ارتفاع أسعار الفائدة.
لكن السلطات وإن كانت وجدت طريقة لدعم القطاع المصرفي عبر توسيع نطاق التأمين على الودائع واستخدام آليات إقراض البنوك بشكل ميسر كملاذ أخير من البنوك المركزية، إلا أنها تتفادى اعتبار ذلك “عملية إنقاذ” كما حدث في 2008.
اختلاف الأصول المتضررة
سبب المخاوف ألا تقتصر الأزمة الحالية في الولايات المتحدة على البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم. فعلى مدى الأسبوع الماضي هرعت بنوك كثيرة للاستفادة من آلية الإقراض الميسر للمصارف لدى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) الذي وفر لها ما يصل إلى 160 مليار دولار من السيولة الطارئة، حسب صحيفة “فايننشال تايمز”.
مع ذلك تظل الأوضاع حالياً مختلفة عما كان عليه الوضع في 2008 حين انهار أحد البنوك الأميركية الكبرى “ليمان براذرز” وكان شرارة انهيار في النظام أعقبتها فترة ركود اقتصادي طويلة. لكن حالياً، تظل أزمة السيولة وتدهور قيمة الأصول محصورة في البنوك الصغيرة والمتوسطة، حتى وإن بلغ عددها 20 مصرفاً أميركياً. أما في الأزمة المالية العالمية فقد كانت المشكلات تخنق كل البنوك، كبيرة وصغيرة.
إنما الفارق الأساسي، كما يشير تحليل لشبكة “سي أن أن”، هو أن هبوط قيمة حيازات البنوك من السندات حالياً يظل محسوباً، بما يمكن السلطات من التدخل ومنع الانهيار الكامل للنظام. أما في 2008 فكان الهبوط الشديد لأصول ومشتقات استثمارية يصعب تحديد قيمتها مثل سندات ضمان قروض الرهن العقاري التي أصبحت بلا قيمة لتمسح مئات مليارات الدولارات من القطاع المصرفي.
بالتالي كان من السهل على السلطات المالية من الاحتياطي الفيدرالي إلى وزارة الخزانة والمؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع المصرفية التدخل بسرعة، لأن أصول البنوك على رغم هبوطها يمكن حساب قدر انخفاضها. كما أن بإمكانها الاستفادة من الوضع المالي الجيد للبنوك الكبيرة لتخفيف التأثير الضار بشكل حاد في القطاع المصرفي من دون كلفة عالية على الخزانة العام وأموال دافعي الضرائب.
4 اختلافات بين الأزمتين
قد يبدو ذلك الفارق الأهم بين الأزمة المالية العالمية في 2008 وأزمة قطاع المصارف الحالية. وإن كان ذلك يطمئن الأسواق والمستثمرين إلى حد ما، إلا أنه لا يزيل المخاوف تماماً من احتمال حدوث أزمة وربما ركود اقتصادي في حال أي خطأ ولو بسيط في السياسات المالية والنقدية.
في سلسلة من التغريدات على موقع التواصل “تويتر” عرض كبير الاقتصاديين في مؤسسة “موديز” مارك زاندي أربعة اختلافات رئيسة بين الأزمة المالية العالمية وأزمة انهيارات البنوك الحالية. والهدف من تغريدات زاندي والمقابلات التلفزيونية التي أجرتها معه الشبكات الأميركية هو طمأنة الأسواق والمودعين والمستثمرين بأن الأزمة الحالية ليست مقلقة كالأزمة المالية العالمية في 2008. أما الاختلافات الأربعة الرئيسة فملخصها كالتالي:
1- نطاق الأزمة:
في الأزمة المالية العالمية تضررت كل البنوك والمؤسسات المالية كبيرة وصغيرة، أما هذه المرة فالمتضرر بشدة هي البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم. كما أنه في أزمة 2008 كانت هناك فقاعة عقارية انفجرت، وانهار قطاع المشتقات الاستثمارية العديدة المرتبطة بضمان قروض الرهن العقاري. ووسع ذلك من نطاق الأزمة في المرة السابقة.
2– إصلاحات النظام المصرفي:
من أوجه الاختلاف المهمة بين الأزمة السابقة والوضع الحالي تأثير الإصلاحات التي أعقبت أزمة 2008 وأدت إلى ضمان السلامة النسبية للقطاع المصرفي. ومن بين تلك الإصلاحات قانون دود – فرانك الذي استهدف تطبيقه “منع الممارسات عالية المخاطر التي أدت إلى الأزمة المالية”.
وقال زاندي في تغريداته إن السلطات فرضت عدداً من القيود بعد الأزمة المالية العالمية، وأضاف “تتطلب تلك الإصلاحات أن تحتفظ البنوك لديها بالمزيد من رأس المال، وأن تكون في وضع سيولة جيد طوال الوقت، وأن تخضع لاختبارات السلامة المالية لتحديد حجم رأس المال الذي تحتاج إليه لتتمكن من مواجهة أي أوضاع اقتصادية صعبة”.
3– رد فعل السلطات
من أوجه الاختلافات المهمة أن السلطات في الأزمة الحالية تصرفت على وجه السرعة للحيلولة دون انتشار عدوى الانهيارات. أما في الأزمة المالية العالمية فقد انهار بنك “ليمان براذرز” الكبير في 15 سبتمبر (أيلول) 2008، كانت تلك شرارة انتشار الأزمة بالنظام المالي العالمي كله.
وفي 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2008 أقر الكونغرس الأميركي “برنامج إنقاذ الأصول المتضررة”، ليوفر في ما بعد حزمة إنقاذ للبنوك والمؤسسات المالية بنحو 700 مليار دولار. أما قانون دود – فرانك فلم تتم المصادقة عليه إلا من إدارة الرئيس باراك أوباما في يوليو (تموز) 2010.
4- الوضع الاقتصادي
ربما يكون اختلاف الوضع الاقتصادي قبل 15 عاماً عن الآن من النقاط المهمة التي تخفف من القلق والتوتر في شأن أزمة المصارف الحالية. وحسب ما ذكر مارك زاندي “النمو الاقتصادي الآن قوي وهناك المزيد من الوظائف المتوفرة ومعدل البطالة عند نسبة متدنية. وحين اندلعت الأزمة المالية العالمية كان الاقتصاد الأميركي بالفعل في ركود منذ تسعة أشهر وكانت أميركا تشهد انفجار فقاعة عقارية”.
وحقق الاقتصاد الأميركي نمواً في الربع الأخير من العام الماضي 2022 بنسبة 2.9 في المئة. أما في الربع الثالث من العام الماضي فحقق الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 3.2 في المئة، ومعدلات البطالة عند نسبة 3.6 في المئة.
أما قبل الأزمة المالية العالمية فقد كان الاقتصاد الأميركي في ركود، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.3 في المئة عن ذروة نموه في الربع الأخير من عام 2007، ووصلت معدلات البطالة في أكتوبر إلى نسبة 10 في المئة.
تبقى الخلاصة أن النظام المصرفي والمالي عموماً، سواء في الولايات المتحدة وأوروبا أو في الاقتصادات الرئيسة حول العالم في وضع أفضل حالياً مما كان عليه قبل وأثناء الأزمة المالية العالمية في 2008.