#مؤسسة_رؤى_للدراسات_والأبحاث
تنطلق المطالبة بالتحقيق الدولي في انفجار المرفأ من حيث بدأت قضية اغتيال الرئيس الحريري من عدم الثقة المحلية والدولية بقدرة الأجهزة القضائية والأمنية على إنجاز تحقيق موضوعي نتيجة افتقارها إلى القرار الحر والأدوات التي تمكنها من تأدية واجباتها ونتيجة تدخل السلطة السياسية.
لكن الفارق أنه عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان النظام السوري يمسك بقرار أجهزة الأمن والقضاء، بينما بعد تفجير المرفأ ضغط “حزب الله” لمنع استكمال التحقيق، وهدد باستبعاد القاضي طارق البيطار المحقق العدلي في القضية.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري تمت المطالبة فوراً بتغيير قادة الأجهزة الأمنية، ورفعت خلال التظاهرات صور “الضباط الأربعة” مع رئيس الجمهورية أميل لحود والمدعي العام للتمييز ووزير العدل القاضي عدنان عضوم.
وهؤلاء الضباط كانوا قادة الأجهزة الأمنية، وهم اللواء جميل السيد المدير العام للأمن العام، والعميد ريمون عازار مدير الاستخبارات في الجيش اللبناني، واللواء علي الحاج المدير العام لقوى الأمن الداخلي، والعميد مصطفى حمدان قائد لواء الحرس الجمهوري.
هذا الاتجاه العام للأحداث كان نتيجة طبيعية لمراقبة المجتمع الدولي لمسار التطورات السياسية، التي أدت إلى اغتيال الرئيس الحريري، واعتبار النظام السوري مع “حزب الله” مسؤولين عن الاغتيال، حتى قبل أن توجد أية أدلة وقبل أن يحصل أي تحقيق.
هذا الانطباع تولد نتيجة مواكبة مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة لتنفيذ القرار 1559 الذي طلب خروج الجيش السوري من لبنان، ونزع سلاح “حزب الله”، وعدم التمديد لرئيس الجمهورية الرئيس أميل لحود، وتم تعيين تيري رود لارسن موفداً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لمتابعة تنفيذ هذا القرار.
وهي شروط ثلاثة رفضتها سوريا و”حزب الله” فتم التمديد للحود وبقي الجيش السوري في لبنان واحتفظ الحزب بسلاحه وتم اعتبار الرئيس الحريري مسؤولاً عن صدور هذا القرار، واتهم بالمشاركة في صياغته، ولذلك كان القرار باغتياله وتم تنفيذه.
وكان تيري رود لارسن بحكم متابعته للتطورات السياسية وعلاقته مع الرئيس الحريري مطلعاً على تفاصيل التهديدات التي تلقاها في دمشق، وعلى رفض “حزب الله” المطلق للقرار، ولذلك تم إرسال بعثة تقصي الحقائق لظروف وتداعيات عملية الاغتيال بقرار من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان بتوصية من مجلس الأمن الدولي برئاسة نائب مفوض الشرطة الإيرلندية بيتر فتزجيرالد، الذي باشر عمله في 25 فبراير، بعد 11 يوماً فقط من الاغتيال كدليل على الاهتمام العالمي بالكشف عن ملابسات هذه القضية.
من لجنة التحقيق إلى المحكمة
في السابع من أبريل (نيسان) 2005، أصدر مجلس الأمن القرار 1595 الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية لتبدأ بعملها، صدر القرار بالإجماع، وأكد على دعم سيادة لبنان واستقلاله وسلامته الإقليمية.
هذا القرار صدر بعد صدور تقرير بعثة تقصي الحقائق برئاسة بيتر فيتزجيرالد في 24 مارس (آذار) 2005، وقد تم التأكيد فيه على تقصير أجهزة الأمن اللبنانية، وعلى العيوب الكثيرة التي اعترت التحقيقات الرسمية، ومنها محاولات العبث بمسرح الجريمة.
وخرج التقرير بتوصيات لفصل الأمن عن السياسة، وبأن تكون هناك هرمية أمنية وطنية، وخلص إلى أن “وجهة نظر البعثة هي أن الدعم السياسي الدولي والإقليمي سيكون ضرورياً لحماية وحدة لبنان الوطنية وصيانة سياسته الهشة من الضغط غير المرغوب به، وأن تعزيز فرص السلام والأمن في المنطقة سيوفر أرضية صلبة لاستعادة الوضع الطبيعي في لبنان”.
وهو كلام يصلح اليوم للبت في موضوع التحقيق بانفجار المرفأ، وكأن الوضع عاد إلى ما كان عليه قبل اغتيال الرئيس الحريري.
بناء على ذلك، وصل رئيس لجنة التحقيق الأول ديتليف ميليس إلى لبنان ليبدأ التحقيق الدولي ويرفع تقريره الأول الذي ربط فيه مراحل تنفيذ الجريمة بالوضع السياسي العام.
هؤلاء هم المتهمون باغتيال رفيق الحريري
بعده أتى سيرج براميرتس ثم دانيال بلمار الذي قدم تقريره النهائي في عام 2011 واتهم فيه عناصر من “حزب الله” بتنفيذ العملية، مستنداً في شكل أساسي إلى تقرير شبكات الاتصال الذي كان وضعه الرائد في قوى الأمن الداخلي وسام عيد، وبين من خلاله أرقام الهاتف التي كان يتم التواصل بها لمراقبة الرئيس الحريري ولتنفيذ الجريمة، محدداً أسماء بعض من كانوا يستخدمونها، وقد تم اغتيال عيد في 25 يناير (كانون الثاني) 2008 نتيجة هذا التقرير.
إذا كانت مسألة تشكيل لجنة التحقيق مرت من دون مشكلات كبرى، فإن إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان كانت معركة بحد ذاتها، خاضتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد محاولة إسقاطها من خلال استقالة الوزراء الشيعة والوزير المحسوب على الرئيس أميل لحود، بينما اختار وزير العدل شارل رزق خوض المواجهة بعد أن تبلغ من مجلس القضاء الأعلى ضرورة تدويل المحاكمة، لأنه عاجز عن تحمل هذه المسؤولية.
على هذا الأساس، أصدر مجلس الأمن بالإجماع في 30 مايو (أيار) 2007 القرار 1757 الذي أقر إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان لمقاضاة المسؤولين عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وجميع الهجمات التي حصلت بين 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2004، تاريخ محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، و12 ديسمبر (كانون الأول) 2005، تاريخ اغتيال النائب جبران تويني، وذلك تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
بموجب هذا القرار، كان على السلطات اللبنانية أن تنفذ ما تطلبه لجنة التحقيق وما تقرره المحكمة، لكن هذه السلطة كانت تتهرب من الالتزام، خصوصاً بما يتعلق بالوصول إلى المتهمين، بالتالي تجاهل توقيفهم، هذا التهرب استمر طوال فترة المحاكمة وبعد صدور الحكم، حيث لم يتم تقديم أي متهم إلى التحقيق أو إلى المحكمة.
مجلس الأمن يستجيب
على رغم تدويل التحقيق استمرت الاغتيالات، في 21 يونيو (حزيران) 2005، انفجرت ببيروت قنبلة تحت المقعد المجاور لمقعد السائق في سيارة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي فقتل وأصيب سائقه إصابات خطرة.
وفي 12 يوليو 2005، استهدف موكب الوزير إلياس المر بعبوة متفجرة بانطلياس، فقتل شخص واحد وأصيب المر و11 شخصاً آخرين بجروح.
وفي 25 سبتمبر (أيلول)، جرت محاولة اغتيال الإعلامية المعارضة مي شدياق، وفي 12 ديسمبر تم اغتيال النائب جبران تويني، وفي اليوم التالي طلبت حكومة لبنان تشكيل المحكمة الدولية.
استجاب مجلس الأمن لطلب الحكومة اللبنانية، التي وقعت مع الأمم المتحدة اتفاقاً لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان في 23 يناير و6 فبراير 2007 على التوالي، وأحيل هذا الاتفاق إلى مجلس النواب اللبناني للتصديق عليه، لكن رئيس مجلس النواب لم يدع المجلس إلى الانعقاد للتصويت عليه، فتمت الاستعاضة عن هذا الأمر الذي تهرب منه رئيس المجلس نبيه بري بإرسال عريضة في 4 أبريل 2007، موقعة من أغلبية النواب، إلى الأمين العام للأمم المتحدة يطلبون فيها إلى مجلس الأمن أن يصدر، بناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، قراراً بشأن تشكيل محكمة خاصة.
انتهاء التحقيق الدولي
في 28 مارس 2008، قدمت لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة تقريرها العاشر إلى مجلس الأمن، وأكد فيه رئيس اللجنة دانيال بلمار “أن شبكة من الأفراد اتفقوا على تنفيذ عملية اغتيال رفيق الحريري”، وأن لهذه الشبكة ارتباطاً ببعض القضايا الأخرى المشمولة بالولاية الموسعة للجنة، وأن الشبكة واصلت عملياتها بعد الاغتيال، وانتهت ولاية لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة في 28 فبراير 2009.
افتتحت المحكمة الخاصة بلبنان أبوابها في 1 مارس 2009 في لايدسندام (بالقرب من مدينة لاهاي) بهولندا، وعملاً بقرار سري أصدره قاضي الإجراءات التمهيدية في 5 أغسطس 2011، انعقد الاختصاص للمحكمة الخاصة بلبنان للنظر في قضايا ثلاث تبين أنها ترتبط باعتداء 14 فبراير 2005، وهذه القضايا هي: الاعتداءات التي استهدفت السياسيين اللبنانيين مروان حمادة وجورج حاوي وإلياس المر.
بدأت في 16 يناير 2014 المحاكمة الرئيسة في المحكمة الخاصة بلبنان، وهي محاكمة عياش وآخرين، المرتبطة باعتداء 14 فبراير 2005.
وقد أسندت إلى سليم جميل عياش وحسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي وأسد حسن صبرا تهمة المشاركة في مؤامرة لارتكاب عمل إرهابي، وعدد من التهم الأخرى ذات الصلة.
وفي 18 أغسطس 2020، أصدرت غرفة الدرجة الأولى حكمها وقررت بالإجماع أن عياش مذنب على نحو لا يشوبه أي شك معقول، بصفته شريكاً بجميع التهم المسندة إليه في قرار الاتهام الموحد المعدل، ورأى القضاة أن مرعي وعنيسي وصبرا غير مذنبين في ما يتعلق بجميع التهم المسندة إليهم في قرار الاتهام.
وفي 11 ديسمبر 2020، أعلنت غرفة الدرجة الأولى حكم العقوبة بالقضية وحكمت بالإجماع على عياش بخمس عقوبات سجن مؤبد تنفذ في الوقت نفسه، ورأت غرفة الدرجة الأولى أن كل جريمة من الجرائم الخمس التي ارتكبها خطرة بما يكفي لفرض العقوبة القصوى، وهي السجن مدى الحياة.
وأصدرت مذكرة توقيف جديدة، ومذكرة توقيف دولية، وقرار نقل واحتجاز بحق عياش، ودعت أولئك الذين يحمونه من العدالة إلى تسليمه للمحكمة.
وفي 10 مارس 2022، أصدر حكم الاستئناف المتعلق بالادعاء في قضية المدعي العام ضد مرعي وعنيسي وفسخت غرفة الاستئناف حكم تبرئة حسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي وأدانتهما بجميع التهم المسندة إليهما.
وبعد إيداع الأفرقاء مذكراتهم، أصدرت غرفة الاستئناف حكم تحديد العقوبة في 16 يونيو 2022 وفرضت على حسن حبيب مرعي وحسين حسن عنيسي خمس عقوبات سجن مؤبد تنفذ في الوقت ذاته، والسجن المؤبد هو أشد العقوبات المنصوص عليها في النظام الأساسي للمحكمة وقواعدها، وبصدور حكم تحديد العقوبة، اختتمت إجراءات القضية.
قبل النهاية
في 1 يوليو 2022، دخلت المحكمة مرحلة تصريف الأعمال المتبقية للحفاظ على سجلاتها ومحفوظاتها والوفاء بالالتزامات تجاه المتضررين والشهود، والاستجابة لطلبات الحصول على معلومات الواردة من السلطات الوطنية، بينما كان من المنتظر أن تبدأ النظر بقضية عياش الثانية المتعلقة بالاعتداءات الثلاثة التي استهدفت الوزير السابق النائب مروان حمادة والأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي ووزير الدفاع السابق إلياس المر في 1 أكتوبر 2004 و21 يونيو 2005 و12 يوليو 2005 على التوالي.
ورأى قاضي الإجراءات التمهيدية أن هذه الاعتداءات الثلاث متلازمة مع اعتداء 14 فبراير 2005 الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وكثيرين آخرين، فضمت المحكمة هذه الاعتداءات إلى اختصاصها في 5 أغسطس 2011.
وفي 2 يونيو 2021، أصدرت غرفة الدرجة الأولى بالمحكمة قراراً ألغت به بدء المحاكمة في هذه القضية الذي كان مقرراً في 16 يونيو 2021، وعلقت أيضاً جميع القرارات المتعلقة بالمستندات المودعة حالياً أمامها، وبأي مستندات تودع مستقبلاً، وذلك حتى إشعار آخر.
وفي 13 يوليو 2021، التمست غرفة الدرجة الأولى توجيهات من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الخطوات الواجب اتخاذها في ما يخص قضية عياش، وقررت الإبقاء على الوقف الموقت للإجراءات إلى حين ورود التوجيهات الملتمسة.
أحكام بلا تنفيذ
اعتباراً من أول يوليو 2022 دخلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في مرحلة الموت السريري وتصفية الأعمال نتيجة عدم توفر التمويل اللازم لمتابعة عملها، فقد ظهر وكأن هناك قرار دولي بعدم استكمال المحكمة لمهماتها وبأن المهمة الأساسية التي كلفت بها قد أنجزتها، وهي المتعلقة بقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، التي استهلكت تمويلاً قارب مليار دولار كان لبنان يسدد ما نسبته 49 في المئة منها، بينما تولت دول كثيرة تأمين الباقي قبل أن تتوقف عملية التمويل فجأة، وكأن هناك قرار دولي بذلك، حيث إن التمويل المتوفر لن يؤمن إلا استمرار عمل المحكمة إدارياً حتى نهاية عام 2023 من أجل تصفية الأعمال.
لقد أعطت المحكمة تجربة حية من القضاء الدولي عندما يتم التركيز على قضية اعتبرت بأنها شكلت تهديداً للأمن الدولي، وقد قدمت المحكمة نموذجاً جديداً من العمل والأداء من خلال التقنيات التي اعتمدتها وتوفير الأمان اللازم للشهود خصوصاً السريين منهم، ومن خلال النقل المباشر لجلسات المحاكمة وطريقة تبويب الملفات والتعاطي مع الوسائل الإعلامية، لكن يبدو أن نهاية طريق عمل المحكمة قد صارت أمراً واقعاً بعد إخلاء مقرها في هولندا من دون معرفة القرار النهائي بخصوص ملفات المحاكمة وكيف سيتم التصرف بها وأين سيتم حفظها وبالنسبة إلى الأجهزة التقنية وما إذا كان لبنان سيطالب بتسلمها لأنه أسهم بدفع تكاليف المحكمة وتجهيزاتها وهو بحاجة إليها لدعم عمل القضاء والمحاكم.
هذا الأمر يطرح مسألة قدرة القضاء اللبناني مثلاً على متابعة المحاكمة في القضايا الثلاث المرتبطة بقضية اغتيال الرئيس الحريري، أي قضايا حمادة وحاوي والمر، وما إذا كان يستطيع أن يعتمد محاضر التحقيق الدولي أم أن عليه أن يعيد التحقيق محلياً لأن هذا التحقيق المحلي لا يرتبط بأية قضية أخرى ويبقى من صلاحية هذا القضاء.
يبقى أن تجربة المحكمة الدولية قدمت نموذجاً جديداً من القضاء الدولي، لكنها لا يمكن أن تشكل بديلاً عن القضاء اللبناني، لأن المشكلة الأكبر تبقى محلية، خصوصاً لجهة عدم توقيف أي متهم أو مشتبه فيه أو محكوم.
أسدلت الستارة على المحكمة وبقي سليم عياش ورفاقه فارين من وجه العدالة ولم يتحقق بعد عدم الإفلات من العقاب.