#سعدية_مفرح
“عمّو طلعنا من هون وبصير لك خدّامة” .. هكذا خاطبت طفلة سورية محاصرة تحت أنقاض بنايةٍ تهدّمت بفعل الزلزال شخصا جاء لإنقاذها. تحتضن الطفلة طفلة أو طفلا آخر، وبالكاد يُسمع صوتها الواهن، بعد أن بقيت في مكانها ما يزيد على 17 ساعة، قبل أن تصل إليها واحدة من فرق الإنقاذ، لكنها واجهت الموقف بشجاعة، فبدت هادئةً تماما، مستسلمة لما هي فيه. لكنها ولهول ما عانت في الزلزال وربما قبله أيضا، فأحزان السوريين وأوجاعهم تتراكم فوق بعضها بعضا منذ سنين، ظنّت أن إنقاذها يحتاج مقابلا تدفعه للمنقذ، فعرضت ما تستطيع الوعد به بهدوء، لتُشعرنا من دون أن تشعُر بأننا كلنا مشاركون في المصير، فالحكاية تتكرّر، والحياة بسلام على هذا الكوكب تحتاج أثمانا ندفعها، نحن البشر، لنقاوم الشرور التي تملأه ونمضي!
يسير أب سوري باتجاه المبنى الذي كان يسكنه مع عائلته، وهو يردّد أسماء من فقد من أبنائه، وأسماء من بقى منهم مذهولا؛ “محمد ابني وأحمد وإسلام إنا لله وإنا إليه راجعون .. توفوا، والباقين بخير.. رنا ونور الدين وأنا بخير.. ها هي البناية.. توفوا وهم الآن تحتها”!. لقد تحوّل المبنى الى مجرّد كومة من الحجارة والرمل والمختلطة بدماء وأشلاء ساكنيه. ومع هذا، بقى الأمل يرفرف في قلب الرجل المحطّم، وهو يحمد الله على ما بقى له من عائلة!
طفل تعلق نصف جسده بين طبقتين من الإسمنت في بناية محطّمة حال حطامها الضخم دون الوصول إليه بسرعة، فلم يجد رجلٌ قريب منه سوى أن يلقّنه الشهادتين، والطفل وراءه؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، يتصبّر بها على البقاء حيا حتى يُنقذ أو يموت!
مقاطع ومشاهد وصور مأساوية أخرى ازدحمت بها وسائل التواصل الاجتماعي منذ فجر الاثنين، وكل منها تحكي قصة لا تقلّ مأساوية عن الأخرى، فما أن تمضي إحدى الحكايات إلى مصيرها من الإهمال الآني نتيجة تكرارها الإعلامي نكتشف حكاية أخرى في الطريق ذاته… خصوصا أن توابع الزلزال استمرّت.
وحكايا الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية وغيرهما من البلدان المجاورة لهما مليئة بالدماء والدموع والأسى، والتفاصيل الصغيرة الأخرى. أناس فقدوا حيواتهم، وآخرون فقدوا أسرهم كاملة، وغيرهم فقدوا بعض أطرافهم، وغيرهم يحتضرون، وغيرهم ما زالوا تحت الأنقاض، وغيرهم في عداد المفقودين. والصيحات التي كانت تُسمع من تحت الأنقاض في كل مكان ضربه الزلزال انتهت إلى مجرد أنينٍ خافتٍ لا يكاد المسعفون يتبيّنونه إلا بواسطة آلات خاصة. ورائحة الموت تنتشر في الفضاء كله حتى في الأماكن التي تعدّ بعيدة عن مركز الزلزال الذي كشف، لهوله وهول ما ترك، عن هشاشتنا، نحن البشر، في هذا الكون الفسيح، وقزّم معارفنا ومعلوماتنا وكل ما نعتقد أننا أوتيناه من علم ومعرفة، فها هي الأرض التي نعيش عليها ونتشارك معطياتها، ونتصارع في سبيل الحصول على مواردها، تغضب في لحظاتٍ لتعيد معادلة البشر في الطبيعة إلى أساسها الأول، فنحن مجرّد ضيوف على هذه الكرة الأرضية، بل على الكون بأكمله. وعلى الرغم من كل ما فعلناه من خير أو شر، ما زلنا نجهل هذا الكون كله، وما زلنا غير قادرين على معرفة أسراره كلها، ولكننا مع هذا كله سرعان ما ننسى ما نكتشفه في تلك اللحظات الكونية الخارقة لحدود ما نفكّر فيه، ونصرّ على أننا الأقوى!