#كير_غايلز
في هذا الوقت من العام الماضي كان غزو أوكرانيا أمراً منطقياً جداً برأي فلاديمير بوتين، وهو قرار غالباً ما وصف من قبل كثيرين خارج الكرملين بأنه غير منطقي، لكن قياساً إلى المعلومات التي وضعت بين يدي بوتين، كان قراراً منطقياً جداً، هذا طبعاً إن صدقتم، كما فعل بوتين على ما يبدو، كل مزاعم الدعايات الروسية.
أي بعبارات أخرى ليس أن الأوكرانيين لم يكونوا أمة حقيقية فقط، بل هم مجرد روس محبطين ذوو شأن دوني ممن يتوقون للتحرر من زمرة النازيين الجدد التي استولت على الحكم في كييف، وليس ذلك فقط بل بأن روسيا تمتلك قوة مسلحة مؤهلة للقتال في القرن الـ 21، أو على أقل تقدير قوة قادرة على شن هجوم مباغت سريع وناجح يلغي الحاجة إلى التحضير من أجل خوض حرب طويلة الأمد، والأهم من هذا وذاك هو أن الغرب لن يقوم برد فعل مهم، ما كان بوتين ليجد إشارات أكثر من تلك تأذن له بالتدخل.
زيلينسكي من “ممثل كوميدي” إلى “تشرشل أوكرانيا”
لكن بعد ذلك بدأت الأمور جميعها تأخذ منحى خاطئاً، فالنجاحات التكتيكية التي أحرزها الجيش الروسي بداية في بعض المناطق لم تكن كافية للتغلب على الإخفاقات الهائلة في الاستخبارات والتخطيط، وهو أمر حكم على العملية بالتقهقر أمام إصرار المقاومة الأوكرانية وفعاليتها، وهي مقاومة اعتبرتها روسيا ومعها بعض الغرب مستحيلة ببساطة، وهكذا وبعد مرور سنة لا تزال الحرب مستمرة.
ربما اعتقدتم بأن هذه التجربة ستضفي جرعة من الواقعية على حسابات بوتين، لكن في خطابه الأخير عن حال الأمة الذي استغرق ساعتين من الزمن يوم الثلاثاء، قدم بوتين صورة عن العالم بطريقة أبعد ما تمون عن الواقع، ولم يقف الموضوع عن حدود قائمة الشكاوى الروسية الطويلة والمألوفة ضد أوكرانيا والغرب، المتهمان بكل الجرائم التي ترتكبها روسيا نفسها، ولا عند تكرار الأفكار الخيالية المحببة لروسيا في شأن الأسلحة النووية أو “المختبرات البيولوجية” الأميركية في أوكرانيا، بل بلغ الأمر حد مناجاته الطويلة عن ازدهار الاقتصاد الروسي على رغم الحرب والعقوبات.
بل بلغ الأمر حداً استفاض به الحديث عن ازدهار الاقتصاد الروسي برغم الحرب والعقوبات ليعبر بعدها عن فخره بتراجع معدل البطالة في روسيا. لكن بوتين لم يذكر أن السبب الأكبر الذي أوصل معدلات البطالة تلك إلى “أدنى مستوياتها تاريخياً” هو التعبئة والهجرة، أي عدد الأشخاص الذين قتلوا في الجبهة والأشخاص الذين فروا من البلاد لأنهم لا يريدون ذلك لأنفسهم، ومعنى هذا الانفصال عن الواقع بالنسبة إلى الحرب بسيط، ستستمر الحرب لأنه إن كانت روسيا تخسر فلا يبدو بأن أحداً أخبر بوتين بذلك بعد.
لا نهاية منظورة للقتال، كما أنه ما من نهاية منظورة للجدال الطويل حول شكل الانتصار أو الهزيمة بالنسبة إلى كلا الطرفين، وهناك كثير من النقاش في شأن الإنجازات التي يمكن لأوكرانيا أن تحققها فعلاً، وإن كان من الممكن أساساً طرد كل القوات الروسية من الأراضي التي تخضع لاحتلالها الوحشي، لكن من ناحية ما يعتبر تحديد شكل الانتصار الأوكراني أقل أهمية على المدى البعيد من مفهوم الهزيمة الروسي.
يعتمد وضع الأمن الأوروبي المستقبلي على وضع روسيا المستقبلي، ويعتمد وضع روسيا المستقبلي على نتيجة الحرب الحالية، وهذا يعني بأن هناك أشكالاً عدة محتملة لروسيا المستقبلية، لكن الشكل الوحيد لروسيا القادرة على إطلاق عملية بطيئة وطويلة تعيد من خلالها تقييم موقعها في العالم هي روسيا التي تعرضت إلى هزيمة محسومة لا لبس فيها في أوكرانيا.
والسبب هو أن أي شيء لا يرقى إلى مستوى الهزيمة الواضحة لن يكون كافياً لإظهار الرئيس بوتين، وروسيا عموماً، بأن قرار إشعال حرب إعادة احتلال استعماري بهدف إعادة عقارب الساعة لزمن الهيمنة الروسية على جيرانها، كان خطأً جسيماً، وهو ما يعني أن أية نهاية للحرب في أوكرانيا قد توحي لروسيا بأنها حققت أي انتصار ولو جزئي قياساً بالأراضي التي كسبتها، من دون حساب الأرواح التي زهقت في سبيل تحقيق ذلك، فهذا سيغذي بذور الصراع المقبل، ولو سقطت أوكرانيا فستضع روسيا هدفها المقبل نصب عينيها مستمدة الشجاعة من انتصارها هذا.
ولو أُرغمت أوكرانيا على التفاوض على شروط لوقف إطلاق النار فهذا سيعطي روسيا الفرصة لتحويل الحرب إلى صراع مجمد يمكن إحياؤه مرة جديدة عندما يشاء الكرملين، وعندما تتحلى روسيا مرة أخرى بالقوة الكافية لفرض نفسها والثقة الكافية بنجاحها.
إن العامل الوحيد الذي لا يتغير هو نية بوتين المعلنة، ففي خطابه يوم الثلاثاء قال بوتين إن “بنية العلاقات الدولية كاملة” تقوضت بسبب توقف الولايات المتحدة عن احترام اتفاقات “يالطا” و”بوتسدام” في نهاية الحرب العالمية الثانية، أي الاتفاقات التي أعطت الاتحاد السوفياتي نصف أوروبا.
إنها شكوى أخرى من ضياع هيمنة موسكو على شرق القارة ومؤشر آخر على طموح بوتين الذي لم يضعف بعد بإخضاع الأراضي التي كانت تحت سيطرة الإمبراطورية سابقاً، مع أن هذه الأراضي ليست دولاً مستقلة ذات سيادة وحسب، بل إن العديد من بينها عضوة كاملة في حلف الـ “ناتو” وفي الاتحاد الأوروبي، وهذا ما يعني بالتالي بأن المطالبات بإيلاء أوكرانيا الدعم الكامل لكي تحقق أسرع انتصار ممكن ليست أخلاقية فقط بل عملية أيضاً، فتزويد أوكرانيا بإمكانات الفوز في الحرب لن ينقذ الأرواح وحسب، بل سيجعل نصف أوروبا مكاناً أكثر أمناً للعيش عبر صد طموحات روسيا للقارة بأكملها.