#حسام_الغزالي
“المؤامرة” كلمة استطاعت أن تتغلغل في سياسة معظم دول العالم العربي على وجه الخصوص والشرق الأوسط على العموم، كلمة استطاعت أن تحمل تأثيراً كبيراً في غالبية الخطابات السياسية لتدعيم أي عمل سلطوي، فكانت كلمة سحرية تبرر تصرف أي عمل ديكتاتوري لتصنع تخلفاً حضارياً بشكل مقنع للشعوب، وتبني ثورات أو حروب لتكون الأساس الذي تُبنى عليه استمرارية السلطات الفاشلة أمام شعوبها، فإذا ما سألت سلطةً ما في دول منهارة كسوريا ولبنان واليمن، أو سلطة ضعيفة السيادة كالعراق ومصر والأردن أين الإعمار البناء؟ أين الاقتصاد والثقافة؟ سيكون الجواب الشافي لهذه السلطات محصور بجملة صغيرة “هناك مؤامرة”، فتبرر هذه الجملة جميع أعمال السلب والنهب والضياع والتخلف، فترمي “سلطة المؤامرة” مشاكلها على أسباب وهمية أو غيبية وتنتظر التغيير من الغيب المجهول، وباعتبار المؤامرة نوعاً من الألاعيب المستورة التي لا يستدل عليها بالمحسوسات والمشاهدات فإنها تغدو جزءاً من عالم الغيب الذي يتغول في المجتمعات المتخلفة ويحول بينها وبين العمل، فعندما تقول “هناك مؤامرة” فإنك تعطي الضوء الأخضر لتشكيل فصائل مسلحة وجبهات شعبية مسلحة تطوعية، تحمي السلطة باسم المؤامرة، وتنصيب القوانين الضاربة للإنسانية كـ”قانون الطوارئ” لتعتقل كل معارض باسم المؤامرة، وتبني السجون فوق المدارس لتستبيح الأفكار النيرة باسم المؤامرة، بل وربما تقصف مدناً أو تحاصر قرى أو تُبيد الشعوب باسم المؤامرة، إذ تغدو كلمة “مؤامرة” حلاً لكل مشكلة وتبريراً لكل فساد، خاصة إذا ما وظفت الدين والمتدينين ورجال العمائم واللحى ليضفوا على حربك المزعومة ضد المؤامرة مسحة دينية مقدسة، متجاهلين الواقع المحسوس، وبعد سياسة “إطار الدين” تبدأ الأقلية النخبوية والمحللين السياسيين المأجورين في تتبع ما يصلهم من معلومات وآراء متناثرة مهزوزة، ليقدموا تفسيراتهم التآمرية الخاصة -والمتناقضة أحياناً- أيضاً من أجل تبرير ممارسات السلطة وأدائها وهزائمها وفشلها وخططها في سرقة المال العام باسم “المؤامرة” ليؤدي هذا التعارض بين النظريات التآمرية للأنظمة الحاكمة من جهة، وتصديق الشعب العام من جهة أخرى، إلى نتائج كارثية تتفاوت في حدتها وآثارها تبعاً لحجم ردود الفعل الصادرة عن الجهتين، وتتوالى السنوات والعقود لتدفن في طياتها حقيقة المعلومات التي تكمن وراء هذه النظريات وتلك التفسيرات، وبالتالي سنجد هيمنة الأنظمة الحاكمة السلطوية ووصولها إلى مُلكية مطلقة للدولة، وغياب للشفافية، واحتكار للمعلومات، ومصادرة للحريات، ولا نحتاج إلى جهد كبير للعثور على أمثلة من واقعنا العام وخاصة العربي لنُدلل على حالة النظرية التآمرية الرسمية والتفسير التآمري المضاد.
وإذا ما سألت هذه الأنظمة عن المنبع الرئيس للتهديد الذي صنع المؤامرة ستتجه الأصابع على الفور إلى دول خارجية، ولن تجد هذه الدول أفضل من اسرائيل كشماعة بمواصفات عالية الجودة لتعليق نظرية المؤامرة عليها، وهنا قد يقول أحدهم بالفعل إسرائيل دولة تحاول جاهدة الهيمنة على مقدرات الشعوب والسيطرة على الدول المحيطة بها وصناعة زعزعة أمنية وسياسية واقتصادية وهي بالفعل دولة المؤامرات على شعوب المنطقة، ودولة احتلال لفلسطين؛ سأقول هذا جواب صحيح ومنطقي، ولكن أليس من المنطقي أن تتخلص دول نظرية المؤامرة من هذا العدو؟؟؟!!، على أقل تقدير أن تشن حربها على إسرائيل لتجفف منابع المؤامرة، لا أن تبقى على مدار أربعين أو خمسين سنة تمتص خيرات شعوبها وتصادر الأفكار وتعتقل المعارضين لحكمها باسم المؤامرة، وأليس من المنطقي أن تتحرك جميع صنوف ومسميات المقاومة بدءاً من الفصائل المسماة منذ أربعين عاماً باسم فلسطين واسم القدس وتوصيفات التحرير والعودة والكثير من مصطلحات المقاومة الخاوية أن تتحرك لضرب العدو الخارجي لا أن تُسمي نفسها بمقاومة العدو الخارجي بالمقابل تضرب معارضيها بالداخل؟؟!!
لكن اعترف هنا أن هذه الأنظمة السياسية والتي نجحت في صناعة وزراعة مصطلح المؤامرة بين شعبها، وتسنى لها أن تضرب بيد من حديد كل من يقف بوجهها أو يعترض على فسادها، بأنها من أذكى الأنظمة السياسية، خاصة أنها نجحت قبل صناعة فكر المؤامرة، أن تصنع شعوباً متعلمة علم المدارس وجاهلة بتحليل الواقع، شعوباً كالدمى ممسوحة التفكير قبل أن تصنع مصطلح المؤامرة الذي سيبقى كذلك ألف عام وعام، فما دام جهل الشعوب سيد الموقف، ستبقى المؤامرة شماعة لاستمرار سلطة الاستبداد.
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً
اشترك في نشرتنا الإلكترونية مجاناً.